فصل: ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ذكر وفاة الملك الصالح صاحب حلب

فـي هـذه السنـة فـي رجـب توفـي الملـك الصالـح إسماعيـل بـن نـور الديـن محمـود بن زنكي بن أقسنقر صاحب حلب وعمره نحو تسع عشرة سنة ولما اشتد به مرض القولنج وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعملـه وكـان حليمـاً عفيـف اليـد والفـرج واللسـان ملازمـاً لأمـور الديـن لا يعـرف لـه شـيء ممـا يتعاطـاه الشبـاب ووصـى بملـك حلـب إلـى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل فلما مـات سـار مسعـود ومجاهـد الديـن قيمـاز مـن الموصـل إلـى حلـب واستقـر فـي ملكهـا‏.‏

ولما استقر مسعود بن مودود في ملك حلب كاتبه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجـار فأشـار قيمـاز بذلك فلم يمكن مسعود إلا موافقته فأجاب إلى ذلك فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها وسلّم سنجار إلى أخيه مسعود وعاد مسعود إلى الموصل‏.‏

وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد النحوي المعروف بابن الأنباري ببغداد وله تصانيف حسنة في النحو وكان فقيها‏.‏

ذكر مسير السلطان صلاح الدين إلى الشام‏:‏ في هذه السنة خامس المحرم سار السلطان صلاح الدين عن مصر إلى الشام ومن عجيب الإتفاق أنه لما برز من القاهرة وخرجت أعيان الناس لوداعه أخذ كل منهم يقول شيئاً في الوداع وفراقه وفي الحاضرين معلم لبعض أولاد السلطان فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد‏:‏ تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار فتطير صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه وتنكد المجلس على الحاضرين فلم يعد صلاح الدين بعدها إلى مصر مع طول المدة وسار السلطان صلاح الدين وأغار في طريقه على بلاد الفرنج وغنم ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر من هذه السنة ولما سار السلطان إلى الشام اجتمعت الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طريقـه فانتهـز فرخشـاه ابـن أخـي السلطـان صلـاح الدين ونائبه بدمشق الفرصة وسار إلى الشقيف بعساكر الشام وفتحه وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك‏.‏

ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن‏:‏ فـي هـذه السنـة سيـر السلطـان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكهما ويقطع الفتن منها وكان بها حطان بن منقذ الكناني وعز الدين عثمان الزنجيلي وقد عادا إلى ولايتهما فإن الأميـر الـذي كـان سيـره السلطـان نائبـاً إلـى اليمـن تولـى وعزلهمـا ثـم توفـي فعادت بين حطان وعثمان الفتن قائمة فوصل سيف الإسلام إلى زبيد فتحصن حطان في بعض القلاع فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه فأحسن صحبته ثم إن حطان طلب دستوراً ليسير إلـى الشام فلم يجبه إلا بعد جهد فجهز حطان أثقاله قدامه ودخل حطان ليودع سيف الإسلام فقبـض عليه وأرسل واسترجع أثقاله وأخذ جميع أمواله وكان في جملة ما أخذه سيف الإسلام مـن حطـان سبعين غلاف زردية مملوءة ذهباً عيناً ثم سجن حطان في بعض قلاع اليمن فكان آخر العهد به وأما عثمان الزنجيلي فإنه لما جرى لحطان ذلك خاف وسار نحو الشام وسيّر أمواله في البحر فصادفهم مراكب أصحاب سيف الإسلام فأخذوا كل ما لعثمـان الزنجيلـي وصفت بلاد اليمن لسيف الإسلام‏.‏

ذكر غارات السلطان الملك صلاح الدين وما استولى عليه من البلاد‏:‏ في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين من دمشق في ربيع الأول ونزل قرب طبرية وشن الإغـارة علـى بلـاد الفرنـج مثـل بانياس وجينين والغور فغنم وقتل وعاد إلى دمشق ثم سار عنها إلى بيروت وحصرها وأغار على بلادها ثم عاد إلى دمشق ثم سار من دمشق إلى البلاد الجزرية وعبر الفرات من البيرة فصار معـه مظفـر الديـن كوكبوركـي بـن زيـن الديـن علـي بـن بكتكيـن وكـان حينئـذ صاحـب حـران وكاتـب السلطـان صلـاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وصار معـه ونـازل السلطان الرها وحاصرها وملكها وسلمها إلى مظفر الدين كوكبوري صاحب حران ثم سار السلطـان إلـى الرقـة وأخذهـا مـن صاحبهـا قطـب الديـن ينـال بن حسان المنبجي فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل‏.‏

ثم سار صلاح الدين إلى الخابور وملك قرقيسيا وماكسين وعربان والخابور واستولى على الخابور جميعه ثم سار إلى نصيبين وحاصرها وملك المدينة ثم ملك القلعة ثم أقطع نصيبين أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين ثم سار عن نصيبين وقصد الموصل وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز للحصار وشحنوها بالرجال والسلاح فحصر الموصل وأقام عليها منجنيقاً فأقاموا عليه من داخل المدينة تسعة مناجنيـق وضايـق الموصـل

فنزل السلطان صلاح الدين محاذاة باب كندة ونزل صاحب حصن كيفا على باب الجسر ونزل تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين على باب العمادي وجرى القتال بينهم وكان ذلك في شهر رجب من هذه السنة فلما رأى أن حصارها يطول رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أتز وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى ثم سار السلطان صلاح الدين إلى حران وعزل في طريقه عن نصيبين أبا الهيجاء السمين‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ فـي هـذه السنـة عمـل البرنـس صاحـب الكـرك أسطـولاً فـي بحـر إيلـة وسـاروا في البحر فرقتين فرقة أقامت على حصن إيلة يحصرونه وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون فـي السواحـل وبغتـوا المسلميـن فـي تلـك النواحـي فإنهـم لـم يعهـدوا بهـذا البحـر فرنجـاً قـط وكـان بمصـر الملـك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين فعمر أسطولاً في بحر عيذاب وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ وهو متولي الأسطول بديار مصر وكان مظفراً فيه وشجاعاً فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم وأوقع بالذين يحاصرون إيلة فقتلهم وأسرهم ثم سار في طلب الفرقة الثانية وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة حرسهما الله تعالى وسار لؤلؤ يقفو أثرهم فبلغ رابغ فأدركهم بساحـل الحـورا وتقاتلـوا أشـد قتـال فظفـر اللـه تعالـى بهـم وقتـل لؤلـؤ أكثرهـم وأخذ الباقين أسرى وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها وعاد بالباقين إلى مصر فقتلوا عن آخرهم‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي عـز الديـن فرخشـاه بـن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق وهو ثقته من بين أهله وكان فرخشاه شجاعاً كريماً فاضلاً وله شعر جيد ووصل خبر موته إلى صلاح الدين وهو في البلاد الجزرية فأرسل إلى دمشق شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم ليكون بها وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرخشاه المذكور‏.‏

وفيهـا توفـي أبـو العبـاس أحمـد بـن علـي بن الرفاعي من سواد واسط وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس وله من التلامذة ما لا يحصى‏.‏

وفيهـا توفي بقرطبة خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي الأنصاري وكان من علماء الأندلس وله التصانيف المفيدة ومولده في سنة أربع وتسعين وأربعمائة‏.‏

وفيها توفي بدمشق مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري الفقيه الشافعي ولد سنة خمس وخمسمائة وهو الملقب قطب الدين وكان إمامـاً فاضـلاً فـي العلـوم الدينيـة قـدم إلـى دمشـق وصنف عقيدة للسلطان صلاح الدين وكان السلطان يقريها أولاده الصغار‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

  ذكر ما ملكه السلطان صلاح الدين من البلاد

في هذه السنة ملك السلطان صلاح الدين حصن آمد بعد حصار وقتال في العشر الأول من المحرم وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بـن داود بـن سقمـان بـن أرتـق صاحـب حصـن كيفـا ثـم سار إلى الشام وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها ثم سار إلى عينتاب وحصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكـي وكـان قد سلم نور الدين عينتاب إلى إسماعيل المذكور فبقيت معه إلى الآن فحاصرها السلطان وملكها تسليم صاحبها إليه فأقره السلطان عليها وبقي في خدمة السلطان ومن جملة أمرائه ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها وبها صاحبها عماد الدين زنكي بن ودود بن عماد الديـن زنكـي بـن أقسنقـر وطـال الحصـار عليـه وكـان قـد كثـر اقتراحـات أمـراء حلـب وعسكرهـا عليـه وقد ضجر من ذلك وكره حلب لذلك فأجاب السلطان ملاح الدين إلى تسليم حلب على أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج واتفقوا على ذلك وسلم حلـب إلـى السلطـان فـي صفر من هذه السنة فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين المذكور يا حمار بعت حلب بسنجار وشرط السلطان على عماد الدين المذكور الحضور إلى خدمته بنفسه وعسكره إذا استدعاه ولا يحتج بحجة عن ذلك ومن الاتفاقات العجيبة أن محي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح السلطان بقصيدة منها‏:‏ وفتحكم حلباً بالسيف في صفر مباشر بفتوح القدس في رجب فرافـق فتـح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكان في جملة من قتل على حلب تـاج الملـوك بـوري بـن أيـوب أخـو السلطـان الأصغـر وكـان كريماً شجاعاً طعن في ركبته فانفكت فمات منها‏.‏

ولما استقر الصلح عمل عماد الدين زنكي المذكور دعوة للسلطان واحتفل لها فبينما هم في سرورهم إذ جاء إنسان فأسر إلى السلطان بموت أخيه بوري فوجد عليه في قلبه وجداً عظيمـاً وأمـر تجهيـزه سـرا ولـم يعلـم السلطـان في ذلك الوقت أحداً ممن كان في الدعوة بذلك لئلا يتنكـد عليهـم ما هم فيه وكان يقول السلطان ما وقعت حلب علينا رخيصة بموت بوري وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم ولما ملك السلطان حلب أرسل إلى حارم وبهما سرخك الذي ولاه الملك الصالح ابن نور الدين في تسليم حارم وجرت بينهما مراسلات فلم ينتظم بينهما حال وكاتب سرخك الفرنج فوثب عليه أهل القلعة وقبضوا عليه وسلموا حارم إلى السلطان فتسلمها وقرر أمر حلب وبلادها وأقطع إعزاز أميراً يقال له سليمان بن جندر‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة قبض عز الدين مسعود صاحب الموصل على نائبه مجاهد الدين قيماز وفيها لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي وسار إلى دمشق وتجهز منها للغزو فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

فأغار على بيسان وحرقها وشن الغارات على تلك النواحي ثم تجهز السلطان إلى الكرك وأرسل إلى نائبه بمصر وهو أخوه الملك العادل أن يلاقيـه إلـى الكـرك فسـارا واجتمعـا عليهـا وحصـر الكـرك وضيـق عليها ثم رحل عنها في منتصف شعبان وسار معه أخوه العادل وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر نائباً عنه‏.‏

موضع الملك العادل ووصل السلطان إلى دمشـق وأعطـى أخـاه أبـا بكـر العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها وسيره إليها في شهر رمضان من هذه السنة وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق‏.‏

وفـي هـذه السنـة فـي جمـادى الآخـرة توفـي محمـد بـن بختيار بن عبد الله الشاعر المعروف بالأبله‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنـة تسـع وسبعيـن وخمسمائـة فـي أواخرهـا توفـي شاهرمـن سكمـان ابـن ظهيـر الدين إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط وقد تقدم ذكر ملك شاهرمن المذكور في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة وكان عمر سكمان لما توفي أربعاً وستين سنة ولما مـات سكمان كان بكتمر مملوكه بميافارقين فلما سمع بكتمر بموته سار من ميافارقين ووصل إلى خلاط وكان أكثر أهلها يريدونه وكان مماليك شاهرمن متفقين معه فأول وصوله استولى على خلـاط وتملكهـا وجلـس علـى كرسـي شاهرمن واستقر في مملكة خلاط حتى قتل في سنة تسع وثمانين وخمسمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن

في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب إلى بلاد الأندلس وعبر البحر في جمع عظيم من عساكـره وقصـد بلـاد الفرنـج فحصـر شنتريـن مـن غـرب الأندلـس وأصابـه مـرض فمـات منـه في ربيع الأول وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة وشهوراً وكان حسن السيرة واستقامت له المملكة لحسن تدبيره ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وكنيته أبو يوسف وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو فقام يعقوب بالملك أحسن قيام وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة‏.‏

ذكر غزو السلطان الكرك‏:‏ في هذه السنة في ربيع الآخر سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزو وكتب إلى مصر فسارت عساكرها إليه ونازل الكرك وحصره وضيق على من به وملك ربض الكرك وبقيت القلعة وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب وقصد السلطان صلاح الدين طمـه فلـم يقدر لكثرة المقاتلة فجمعت الفرنج فارسها وراجلها وقصدوه فلم يمكن السلطان إلا الرحيل فرحل عن الكرك وسار إليهم فأقاموا في أماكن وعرة وأقام السلطان قبالتهم وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك فعلم بامتناعه عليه فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر ثم سار إلى صبصطية وبها مشهد زكريا فاستنقذ ما بها من أسرى المسلمين ثم سار إلى جنبتين ثم عاد إلى دمشق‏.‏

ذكر وفاة صاحب ماردين‏:‏

في هذه السنة مات قطب الدين أيلغازي بن نجم الدين ألبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحـب مارديـن أقـول إنـه قـد تقـدم فـي سنـة سبـع وأربعين وخمسمائة ذكر ملك ألبي ولد أيلغازي المذكور وبقي ألبي في ملك ماردين حتى مات وملك بعده ابنه أيلغازي المذكور ولم يقع لي وفاة ألبي وملك أيلغازي المذكورين متى كان لأثبته ولما مات أيلغازي المذكور كان لـه أولـاد أطفال فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين بولق أرسلان وقام بتدبير المملكة وترتيبها مملوك والده نظام الدين البقش حتى كبر بولق أرسلان وكان به هوج وخبط فمات بولق أرسلـان وأقام البقش بعده أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي ولم يكن له حكم بل الحكم إلى البقش وإلى مملوك للبقش اسمه لؤلؤ كان قد تغلب على أستاذه البقش بحيث كان لا يخرج البقش عن رأي لؤلؤ المذكور ولم يكن لناصر الدين أرتق أرسلان صاحب ماردين من الحكم شيء وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وستمائة فمرض النظام البقش وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكيـن فقتلـه ثـم عـاد إلى البقش فقتله وهو مريض واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي شيـخ الشيـوخ صـدر الديـن عبـد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعيد أحمد وكـان قد سار من عند الخليفة إلى السلطان صلاح الدين في رسالة ومعه شهاب الدين بشير الخادم ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل فلم ينتظم حـال واتفـق أنهمـا مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق وسارا في الحر فمات بشير بالسخنة ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرحبة ودفن بمشهد البوق وكان أوحد زمانه قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا‏.‏

وفيها في المحرم أطلق عز الديـن مسعـود صاحـب الموصـل مجاهـد الديـن قيمـاز مـن الحبـس وأحسن إليه‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

  ذكر حصار السلطان صلاح الدين الموصل

في هذه السنة حصر السلطان صلاح الدين الموصـل وهـو حصـاره الثانـي فأرسـل إليـه عـز الدين مسعود صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الديـن محمـود بـن زنكـي وغيرهمـا مـن النساء وجماعة يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم فردهم واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين لا سيما وفيهن بنت نور الدين محمود وحاصـر الموصـل وضايقهـا وبلغـه وفـاة شاهرمـن صاحـب أخلـاط فـي ربيع الآخر من هذه السنة فسار عن الموصل إلى جهة أخلاط فاستدعى أهلها ليملكها‏.‏

ذكر وفاة صاحب حصن كيفا‏:‏ في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب الحصن وآمد وملك بعده ولده سقمان ولقبه قطب الدين وكان صغيراً فقام بتدبيره القوام ابن سماقا الأشعـردي وحضـر سقمـان إلـى السلطـان صلـاح الديـن وهـو نـازل على ميافارقين فأقره على ما كان بيد ولده نور الدين محمد وأقام معه أميراً من أصحاب أبي سقمان المذكور‏.‏

ذكر ملك السلطان صلاح الدين ميافارقين‏:‏ لمـا سـار السلطـان عـن الموصـل إلـى أخلـاط جعـل طريقـه علـى ميافارقيـن وكانـت لصاحـب ماردين الذي توفي وفيها من حفظها من جهة شاهرمن صاحب أخلاط المتوفي فحاصرهـا السلطان وملكها في سلخ جمادى الأولى ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل فجاءته رسل عز الدين مسعود يسأل في الصلح واتفق حينئذ أن السلطان صلاح الدين مرض وسار من كفر زمار عائداً إلى حران فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان صلاح الدين شهـرزور وأعمالهـا وولايـة القرابلـي وجميع ما وراء الزاب وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميـع منابـر الموصـل ومـا بيـده وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير وتسلم السلطان ذلك واستقر الصلح وأمنـت البلـاد ووصـل السلطـان إلـى حـران وأقـام بهـا مريضـاً واشتـد بـه المـرض حتـى أيسـوا منـه ثم إنه عوفي وعاد إلـى دمشـق فـي المحـرم سنـة اثنتيـن وثمانيـن وخمسمائـة ولمـا اشتـد مـرض السلطـان سـار ابـن عمـه محمـد بن شيركوه بن شاذي صاحب حمص إلى حمص وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة ليلة عيد الأضحى شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي فأصبح ميتاً‏.‏

قيل إن السلطان صلاح الدين دس عليه من سماه سماً لما بلغه مكاتبته أهـل دمشـق في مرضه ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيد محمد على ولده شيركوه ابن محمد وعمره اثنتا عشرة سنة وخلف صاحب حمص شيئاً كثيراً من الدواب والآلات وغيرها فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عودته من حران وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه‏.‏

وفيها توفي الحافظ محمد بن عمر بن أحمد الأصفهاني المدني المشهور وكان إمام عصره في الحفـظ والمعرفـة ولـه فـي الحديـث وعلومه تواليف مفيدة وله كتاب الغيث في مجلد كمل به كتاب الغريبيـن للهـروي واستـدرك فيـه عليه مواضع وهو كتاب نافع وكان مولده سنة إحدى وخمسمائة‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

ذكر نقل الملك العادل أخي السلطان من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق‏:‏ في هذه السنة أحضر السلطان ولده الأفضل من مصر وأقطعه دمشق وسببه أن الملك المظفر تقـي الديـن عمـر ابن أخي السلطان كان نائب عمه بمصر وكان معه الملك الأفضل‏.‏

فأرسل تقي الدين يشتكي من الأفضل أني لا أتمكن من استخراج الخراج فإني إذا أحضرت من عليه الخراج وأردت عقوبتـه يطلقـه الملـك الأفضـل فأرسـل السلطـان وأخـرج ابنـه الملـك الأفضـل مـن مصـر وأقطعـه دمشـق وتغيـر السلطـان علـى تقي الدين عمر في الباطن فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليتملك مصر إذا مات السلطان ثم أحضر أخاه العادل من حلب وجعل معه ولده العزيز عثمان ابن السلطان نائباً عنه بمصر واستدعى تقي الدين عمر من مصر فقيل أنه توقف عن الحضور وقصد اللحاق بمملوكه قراقوش المستولي على بعض بلاد إفريقية وبريقة من المغـرب وبلغ السلطان ذلك فساءه وأرسل يستدعي تقي الدين عمر ويلاطفه فحضر إليه ولما حضر تقـي الديـن عنـد السلطـان زاده على حماة منبج والمعرة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها واستقر العادل والعزيز عثمان في مصر ولما أخـذ السلطـان حلـب مـن أخيـه العـادل أقطعه عوضها حران والرها‏.‏

ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل‏:‏ في هذه السنة في أولها توفي البهلوان محمد بن الدكز صاحب بلـد الجبـل همـذان والـري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد وكان عادلاً حسن السيرة وملـك البلـاد بعـده أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان وكان السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه السلجوقي مع البهلوان وله الخطابة في بلـاده وليـس لـه مـن الأمـر شـيء فلمـا مـات البهلوان خرج طغريل عن حكم قزل وكثر جمعه واستولى على بعض البلاد وجرت بينه وبين قزل حروب‏.‏

في هـذه السنـة غـدر البرنـس صاحـب الكـرك وأخـذ قافلـة عظيمـة مـن المسلميـن وأسرهـم فأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك فلم يفعل فنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده‏.‏

وفيهـا توفـي أبـو محمـد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري المصري الإمام في علم النحو واللغة اشتغل عليه جماعة وانتفعوا به ومن جملتهم أبو موسى الجزولي صاحب المقدمة الجزولية في النحو وكانت وفاته بمصر وولد بها في سنة تسع وتسعين وأربعمائة‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

  ذكر غزوات السلطان الملك الناصر صلاح الدين وفتوحاته

في هذه السنة جمع السلطان العساكر وسار بفرقة من العسكر وضايق الكـرك خوفـاً علـى الحجاج من صاحب الكرك وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل فأغاروا على بلد عكا وتلك الناحية وغنموا شيئاً كثيراً ثم سار السلطان ونزل على طبرية وحصر مدينتها وفتحها عنـوة بالسيـف وتأخـرت القلعـة وكانـت طبرية للقومص صاحب طرابلس وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته فأرسلت الفرنج إلى القومص المذكور القسوس والبطرك ينهونه عن موافقة السلطان ويوبخونه فصار معهم واجتمع الفرنج لملتقى السلطان‏.‏

لما فتح السلطان مدينة طبرية اجتمعت الفرنج في ملوكهـم بفارسهـم وراجلهـم وسـاروا إلـى السلطان فركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر والتقى الجمعان واشتد بينهم القتال ولما رأى القومص شدة الأمر حمـل علـى مـن قدامـه مـن المسلمين وكان هناك تقي الدين صاحب حماة فأفرج له وعطف عليهم فنجا القومص ووصل إلى طرابلس وبقي مدة يسيرة ومات غبناً ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كل ناحية وأبادوهـم قتـلاً وأسـراً وكـان فـي جملة من أسر ملك الفرنج الكبير والبرنس أرنلط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن الهنفري ومقدم الداوية وجماعة من الإسبتارية وما أصيبت الفرنج مـن حين خرجوا إلى الشام وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه وكان الحر والعطش به شديداً فسقاه السلطان ماء مثلوجاً وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلـط صاحب الكرك‏.‏

فقـال له السلطان‏:‏ إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أماناً له ثم كلم السلطان البرنس ووبخـه وفزعـه علـى غـدره وقصـده الحرميـن الشريفيـن وقـام السلطان بنفسه فضرب عنقه فارتعدت فرائص ملك الفرنج فسكن جأشه‏.‏

ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان ثم أرسل أخاه الملك العادل فنازل مجد اليابا وفتحه عنوة بالسيف ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيسارية وهيفا وصفورية ومعلثا والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا بالسيف وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن وأرسل فرقة إلى نابلس فملكوا قلعتها بالأمان‏.‏

ثـم سـار الملـك العـادل بعـد فتح مجد اليابا إلى يافا وفتحها عنوة بالسيف ثم سار السلطان إلى تبنين ففتحها بالأمان ثم سار إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله لتسـع بقيـن مـن جمـادى الأولـى من هذه السنة ثم سار إلى بيروت فحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان وكان حصرها مدة ثمانية أيام وكان صاحـب جبيـل مـن جملة الأسرى فبذل جبيل في أن يسلمها ويطلق سراحه فأجيب إلى ذلك‏.‏

وكان صاحـب جبيل ابن أعظم الفرنج وأشدهـم عـداوة للمسلميـن ولـم تـك عاقبـة إطلاقـه حميـدة وأرسـل السلطان فتسلم جبيل وأطلقه‏.‏

وفيهـا حضـر المركيـس فـي سفينـة إلـى عكا وهي للمسلمين ولم يعلم المركيس بذلك واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا يقترح أمراً بعد آخر والملك الأفضـل يجيـب المركيس إلى ذلك إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور واجتمع عليه الفرنج الذين بها وملك صور وكان وصول المركيس إلى صـور وإطلـاق الفرنـج الذيـن يأخـذ السلطـان بلادهـم بالأمان ويحملهم إلى صور من أعظم أسباب الضرر التي حصلت حتى راحت عكا وقوي الفرنج بذلك ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوماً وتسلمها بالأمان سلخ جمادى الآخرة‏.‏

ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة والداروم وغزة وبيت لحم وبيت جبريل والنطرون وغير ذلك‏.‏

ثم سار السلطان ونازل القدس وبه من النصارى عدد يفوت الحصر وضايق السلطان السور بالنقابين واشتد القتال وغلقوا السور فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك وقال‏:‏ لا آخذهـا إلا بالسيـف مثلما أخذها الفرنج من المسلمين فعاودوه في الأمان وعرفوه ما هم عليه من الكثرة وأنهم إن أيسوا منه من الأمان قاتلوا خلاف ذلك فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يـؤدي كل من بها عشرة الدنانير عشرة الدنانير من الرجال يؤدي النساء خمسة خمسة ويؤدوا عن كل طفل دينارين وأي من عجز عن الأداء كان أسيراً فأجيب إلى ذلك وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب وكان يوماً مشهوداً ورفعت الأعلام الإسلامية على أسـرار المدينـة ورتـب السلطـان علـى أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور فخان المرتبون في ذلك ولم يحملـوا منـه إلا القليـل وكـان علـى رأس قبـة الصخـرة صليـب كبيـر مذهـب وتسلـق المسلمون وقلعوه فسمع لذلك ضجة لم تعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور ومن الكفار بالتفجـع والتوجـع وكـان الفرنـج قد عملوا في غربي الجامع الأقصى هرباً ومستراحاً فأمر السلطان بإزالة ذلك وإعادة الجامع إلى ما كان عليه‏.‏

وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب قد تعب عليه مدة وقال‏:‏ هذا لأجل القدس فأرسل السلطان صلاح الدين وأحضر المنبر من حلب وجعله في الجامع الأقصى وأقام السلطـان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحوالها وأمر بعمل الربط والمدارس الشفعوية‏.‏

ثم رحل السلطان إلى عكا ورحل منها إلى صور وصاحبها المركيس وقد حصنها بالرجال وحفر خندقها ونـزل السلطـان علـى صـور تاسـع شهـر رمضـان وحاصرهـا وضايقهـا وطلـب الأسطول فوصل إليه في عشرة شوان فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذوا خمسة شواني ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ الباقون وطال الحصار عليها فرحـل السلطان عنها في آخر شوال وكان أول كانون الأول وأقـام بعكـا وأعطـى العساكـر الدستـور ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة سار شمس الدين محمد بن عبد الملك عرف بابن المقدم بعد فتح القدس حاجاً وكان هو أمير الحاج الشامي ليجمع بين الغزوة وزيارة القدس والخليل عليه السلام والحج فـي عـام واحـد فسـار ووقـف بعرفـات ولما أفاض أرسل إليه طاشتكين أمير الحاج العراقي يمنعه من الإفاضة قبله فلم يلتفت إليه فسار العراقيون واتقعوا مع الشاميين ففتل بينهم جماعة وابن المقـدم يمنـع أصحابه من القتال ولو أمكنهم لانتصفوا من العراقيين فجرح ابن المقدم ومات شهيداً ودفن بمقبرة المعلى‏.‏

وفيها قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق وملك كثيراً من البلاد وأرسل قزل ابن الدكز إلى الخليفة يستنجده ويخوفه عاقبة أمر طغريل‏.‏

وفيها سار شهاب الدين الغوري وغزا بلاد الهند‏.‏

وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب ولم يكن للخليفة معه حكم وظهر له أمـوال عظيمـة فأخـذت جميعاً‏.‏

وفيها استوزر الخليفة الناصـر لديـن اللـه أبـا المظفـر عبيـد اللـه بـن يونـس ولقبـه جلـال الديـن ومشى أرباب الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة وكان ابن يونس من جملة الناس فكان يمشي ويقول لعن الله طول العمر‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة الدامغاني وكان قد ولى القضاء للمقتفي‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة

  ذكر فتوحات السلطان صلاح الدين وغزواته

شتى السلطان هذه السنة في عكا ثم سار بمن معه وقصد كوكب وجعل على حصارها أميراً يقال له قيماز النجمي وسار منها في ربيع الأول ودخل دمشق ففرح النـاس بقدومـه وكتـب إلى الأطراف باجتماع العساكر وأقام في دمشق تقدير خمسة أيام وسار من دمشق في منتصف ربيع الأول من هذه السنة ونزل على بحيرة مقدس غربي حمص وأتته العساكر بها فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجـار ونصيبيـن ولمـا تكاملت عساكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد وشن الغارات على بلاد الفرنج وسار مـن حصن الأكراد فنزل على أنطرطوس سادس جمادى الأولى فوجد الفرنج قد أخلوا أنطرطوس فسـار إلى مرقية فوجدهم قد أخلوها أيضاً فسار إلى تحت المرقب وهو للإستبتار فوجده لا يرام ولا لأحد فيه مطمع فسار إلى جبلـة ووصـل إليهـا ثامـن جمـادى الأولـى وتسلمهـا حالـة وصوله فجعل فيها لحفظها الأمير سابـق الديـن عثمـان بـن الدالـة صاحـب شيـزر ثـم سـار السلطان إلى اللاذقية ووصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى ولها قلعتان فحصر القلعتين وزحف إليهما فطلب أهلهما الأمان فأمنهم وتسلم القلعتين ولما ملك السلطان اللاذقية سلمهـا إلـى ابـن أخيـه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أبوب فعمرها وحصن قلعتها وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها كما فعل بقلعة حماة‏.‏

ثم رحل السلطان عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى إلى صهيون وحاصرها وضايقها فطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيمـا يؤدونـه فأجابـوه إلـى ذلك وتسلم السلطان قلعة صهيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له ناصر الدين منكورس صاحـب قلعـة أبـي قبيـس‏.‏

ثـم فـرق عسكره في تلك الجبال فملكوا حصن بلادنوس وكان الفرنج الذين به قد هربوا منه وأخلوه وملكوا حصن العبد وحصن الجماهدبين ثم سار السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة ووصل إلى قلعة بكاس فأخلاهـا أهلهـا وتحصنـوا بقلعـة الشغـر فحصرها ووجدها منيعة وضايقها فأرمى الله في قلوب أهلها الرعب وطلبوا الأمان وتسلمها يوم الجمعة سادس جمادى الآخرة بالأمان وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب فحصر سرمينيـة وضايقهـا وملكهـا واستنـزل أهلهـا علـى قطيعـة قررهـا عليهـم وهـدم الحصـن وعفـى أثـره وكـان فـي هذا الحصن وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة‏.‏

ثم سار السلطان من الشغر إلى برزية ورتب عسكره ثلاثة أقسام وداومها بالزحف وملكها بالسيف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة وسبى وأسر وقتل أهلها‏.‏

قال مؤلف الكامل ابن الأثير‏:‏ كنت مع السلطان في مسيره وفتحه هذه البلاد طلبـاً للغـزوة فنحكي ذلك من مشاهدة‏.‏

ثم سار السلطان فنزل على جسر الحديد وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية فأقام عليه أياماً حتى تلاحق به من تأخر من العسكر ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب من هذه السنة وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابـه فقط وتسلمها تاسع عشر رجب‏.‏

ثم سار من دربساك إلـى بغـراس‏.‏

وحصرهـا وتسلمهـا بالأمان على حكم أمان دربساك وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلـى السلطـان يطلـب منـه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه السلطان إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر وكان صاحب أنطاكية حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد فإن أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها على ما ذكرناه فجعل بيمند صاحب أنطاكية ابنه في ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة سار إلى حلب فدخلها ثالث شعبان وسـار منها إلى دمشق وأعطـى عمـاد الديـن زنكـي بـن مـودود دستـوراً وكذلـك أعطـى غيـره مـن العساكر الشرقية وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر رضي الله عنه ابن عبد العزيز فزاره وزار الشيـخ الصالـح أبـا زكريـا المغربـي وكـان مقيمـاً هنـاك وكـان مـن عبـاد اللـه الصالحين وله كرامات ظاهرة وكـان مـع السلطـان أبـو فليتـة الأميـر قاسـم بـن مهنـا الحسينـي صاحب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم شهد معه مشاهده وفتوحاته وكـان السلطـان يتبرك برؤيته ويتيمن بصحبته ويرجع إلى قوله ودخل السلطان دمشق في شهر رمضان المعظم فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحـوا ويستريحـوا فقـال السلطـان‏:‏ إن العمـر قصيـر والأجـل غيـر مأمون وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها وخلا أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فأمر الملـك العـادل المباشريـن لحصارهـا بتسلمهـا فتسلمـوا الكـرك والشوبـك ومـا بتلـك الجهات من البلاد ثم سار السلطان من دمشق في منتصف رمضان وسار إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمهـا بالأمـان ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النجمي يحاصرها فضايقها السلطان وتسلمها بالأمـان فـي منتصف ذي القعدة وسير أهلها إلى صور وكان اجتماع أهل هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين ظهر ذلك فيما بعد ثم سار السلطان إلى القدس فعيد فيه عيد الأضحى ثم سار إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ فـي هـذه السنـة أرسـل قـزل بـن الدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر على طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي ويحذره عاقبة أمره فأرسل الخليفة عسكراً إلى طغريل والتقوا ثامن ربيع الأول من هذه السنة قرب همذان فانهزم عسكر الخليفة وغنم طغريـل أموالهـم وأسـر مقـدم العسكر جلال الدين عبيد الله وزير الخليفة‏.‏

وفيها توفي محمد بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي الشاعر المشهور وقصائده في الغزل والنسيب مشهورة وله في غير ذلك أشياء حسنة أيضاً وقد صودر ببغداد جماعة من الدواوين من جملة قصيدته‏:‏ يا قاصدا بغداد جز عن بلـدة للجور فيها زجرة وعتاب إن كنت طالب حاجة فارحع فقد سدت على الراجي لها الأبواب والناس قد قامت قيامتهم فلا أنسـاب بينهـم ولا أسباب والمرء يسلمه أبوه وعرسه ويخونـه القرباء والأحباب شهدوا معادهم فعاد مصدقا من كان قبل ببعثه يرتاب جسـر وميـزان وعـرض جرائـد وصحائف منشـورة وحسـاب ما فاتهم من يوم ما وعدوا بـه فـي الحشر إلا راحم وهاب ومولد ابن التعاويذي المذكور في سنة تسع عشرة وخمسمائة‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة

في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون وحضر إليه صاحب شقيف أرنون وبذل إليه تسليم الشقيف بعد مدة ظهر بها خديعة منه فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان وكان اسم صاحب الشقيف أرنلط فقال له السلطان في التسليم فقال‏:‏ لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن فأمسكه السلطان وبعثه إلى دمشق فحبس ذكر حصار الفرنج عكا‏:‏ كان قد اجتمع بصور أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان فكثر جمعهم حتى صاروا في عالم لا تحصى كثرتهم وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون وصوروا صورة المسيح وصورة عربي يضرب المسيح وقد أدماه‏.‏

وقالوا‏:‏ هذا نبي العرب يضرب المسيح فخرجت النساء من بيوتهن ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة وساروا إلى عكا من صور ونازلوها فـي منتصـف رجـب مـن هذه السنة وضايقوا عكا وأحاطوا بيوتها من البحر إلى البحر ولم يبق للمسلمين إليها طريق فسار إليهم السلطان ونزل قريب الفرنج وقاتلهم في مستهل شعبان وباتوا على ذلك وأصبحوا فحمل تقي الدين عمر صاحب حماة مـن ميمنـة السلطـان علـى الفرنـج فأزالهـم عـن موقعهـم والتـزق بالصـور وانفتـح الطريـق إلـى المدينـة يدخـل المسلمون ويخرجون وأدخل السلطان إلى عكا عسكراً نجدة فكان من جملتهم أبو الهيجاء السمين وبقي المسلمون يغـادون القتـال ويراوحونه إلى العشرين من شعبان ثم كان بين المسلمين وبينهم وقعة عظيمة فإن الفرنج اجتمعوا وضربوا مع السلطان مصافاً وحملوا علـى القلـب فأزالـوه وأخـذوا يقتلـون فـي المسلمين إلى أن بلغوا إلى خيمة السلطان فانحاز السلطان إلى جانب وانضـاف إليـه جماعـة وانقطع مدد الفرنج واشتغلوا بقتـال الميمنـة فحمـل السلطـان علـى الفرنـج الذيـن خرقـوا القلـب وانعطف عليهم العسكر فأفنوهم قتلاً فكانـت قتلـى الفرنـج نحـو عشـرة آلـاف نفـس ووصـل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية وبعضهم وصل إلى دمشق وجافت الأرض بعد هذه الوقعة ولحق السلطان مرض وحدث له قولنج فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع فوافقهـم ورحـل من عكا رابع عشر رمضان من هذه السنة إلى الخروبة فلما رحل تمكن الفرنج مـن حصـار عكـا وانبسطـوا فـي تلـك الـأرض وفـي تلـك الحـال وصـل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ وكان شهماً فظفر ببطشة للفرنج فأخذها ودخل بها إلى عكا فقوى قلوب المسلمين وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر وبالسلاح إلى أخيه السلطان فقويت قلوب المسلمين بوصوله‏.‏

ذكر غير ذلك‏:‏ فيها توفي بالخروبة الفقيه عيسى وكان مع السلطان وهو من أعيان عسكره وكان جندياً فقيهاً شجاعـاً وكـان مـن أصحاب الشيخ أبي القاسم البرزي‏.‏

وفيها توفي محمد بن يوسف بن محمد بن قائد الملقب موفق الدين الأربلي الشاعر المشهور وكان إماماً مقدماً في علم العربية وكان أعلم الناس بالعروض وأحذقهم بنقد الشعر وأعرفهم بجيده من رديئه واشتغل بعلوم الأوائـل وحـل كتـاب إقليـدس وهـو شيـخ أبي البركات بن المستوفي صاحب تاريخ أربل ورحل ابن القائد المذكور إلى شهرزور وقام بها مدة ثم رحل إلى دمشق ومدح السلطان صلاح الدين يوسف ومن شعره قصيدة مدح بها زين الدين يوسف صاحب أربل منها‏:‏ رب دار بالحمـى طال بلاها عكف الركـب عليهـا فبكاهـا كـان لـي فيهـا زمـان وانقضـى فسقـى الله زماني وسقاها قل لجيران مواثيقهم كلما أحكمنها رثت قواها وإذا ما طمـع أغـرى بكـم عـرض اليـأس لنفسي فثناها فصبابات الهـوى أولهـا طمع النفس وهذا منتهاها لا تظنوا لي إليكم رجعة كشف التجريب عن عيني عماها إن زين الدين أولاني يـداً لم تدع لي رغبـة فيمـا سواهـا وهي طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر وكان أبوه محمد تاجراً يتردد إلى البحرين لتحصيل اللآلئ من المغاصات‏.‏

وفيها توفي محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالقاضي صاحب الطريقة في الخلاف وصنف فيه التعليقة وهى عمدة المدرسين في إلقاء الدروس ومن لـم يذكرها فإنما هو لقصور فهمه عن إدراك دقائقها وكان متفنناً في العلوم وله في الوعظ اليد الطولى‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

في هذه السنة بعد دخول صفر رحل السلطان صلاح الديـن عـن الخروبـة وعـاد إلـى قتـال الفرنـج علـى عكا وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكا ثلاثة أبرجة طول البرج ستون ذراعاً جاؤوا بخشبها من جزائر البحر وعملوها طبقات وشحنوها بالسلاح والمقاتلة ولبسوها جلود البقـر والطيـن بالخـل لئـلا يعمـل فيهـا النـار فتحايـل المسلمـون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح ثم أحرقوا الثاني والثالث وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة ووصل إلى السلطان العساكر من البلاد وبلغ المسلمين وصول ملـك الألمـان وكـان قـد سـار مـن بلـاد وراء القسطنطينيـة بمائـة ألـف مقاتـل واهتـم المسلمـون لذلك وآيسوا من الشام بالكلية فسلط الله تعالى على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق ولما وصل ملكهم إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فغرق وأقاموا ابنه مقامه فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم وطائفة خامرت ابن الملك المذكور فرجعوا أيضاً ولم يصل مـع ابـن ملـك الألمـان إلـى الفرنـج الذين على عكا غير تقدير ألف مقاتل وكفى الله المسلمين شرهم وبقي السلطان والفرنج على عكا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة فخرجت الفرنـج مـن خنادقهـم بالفـارس والراجـل وأزالـوا الملـك العـادل عـن موضعـه وكـان معـه عسكـر مصـر فعطفـت عليـه المسلمـون وقتلـوا مـن الفرنـج خلقـاً كثيـراً فعـادوا إلـى خنادقهم وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة ولولا ذلك لكانت الفيصلة ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة لما قوي الشتاء واشتدت الرياح أرسل الفرنج المحاصرون عكـا مراكبهـم إلـى صور خوفاً عليها أن تنكسر فانفتحت الطريق إلى عكا في البحر وأرسل البدل إليها فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها‏.‏

فحصل التفريط بذلك لضعف البدل‏.‏

وفيهـا فـي ثامـن شـوال توفـي زيـن الديـن يوسـف بـن زين الدين علي كوجك صاحب أربل وكان مع السلطـان فـي عسكره ولما توفي أقطع السلطان صلاح الدين أربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن

زين الدين علي كوجك وأضاف إليه شهرزور وأعمالها وارتجع ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسار مظفر الدين إلى أربل وملكها‏.‏

وفيها استولى الخليفة الناصر لدين الله على حديثة عانـة بعـد حصرهـا مـدة‏.‏

وفيهـا أقطـع السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسمساط والموزر الملك المظفر تقي الدين عمر زيادة على ما بيده وهو ميافارقين ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

  ذكر استيلاء الفرنج على عكا

واستمر حصار الفرنج لعكا إلى هـذه السنـة وكانـوا قـد أحاطـوا بهـا مـن البحـر إلـى البحـر وحفـروا عليهـم خندقـاً فلـم يتمكـن السلطـان مـن الوصـول إليهـم وكانـوا محاصريـن لعكـا وهم كالمحصورين من خارجهم من السلطان واشتد حصارهم لعكـا وطـال وضعـف مـن بهـا عـن حفظ البلد وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع العدو عنهم فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب من عكا وطلب الأمان من الفرنـج علـى مـال وأسـرى يقومـون بـه للفرنـج فأجابوهـم إلـى ذلـك وصعـدت أعلـام الفرنج على عكا ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة واستولوا على البلد بما فيه وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسـرى وصليـب الصليـوت وكتبـوا إلـى السلطـان صلـاح الديـن بذلـك فحصـل مـا أمكن تحصيله من ذلك وطلب منهم إطلاق المسلمين فلم يجيبوا إلى ذلك فعلم منهم الغدر واستمر أسرى المسلمين بها‏.‏

ثـم قتـل الفرنـج مـن المسلميـن جماعـة كثيـرة واستمروا بالباقين في الأسر وبعد استيلاء الفرنج على عكا وتقرير أمرها رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهـم ثـم سـاروا مـن قيساريـة إلـى أرسـوف ووقـع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن موقفهم ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا من السوقية وغيرهم خلقاً كثيراً ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها ثم رأى السلطـان تخريـب عسقلـان مصلحـة لئـلا يحصـل لها ما حصل لعكا فسار إليها وأخلاها وخربها ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها فدكها إلى الأرض فلما فرغ السلطان من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد‏.‏

ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالتظرون ثامن شهر رمضـان ثـم تراسـل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملـك الإنكتـار ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة وبقي في كل يوم يقع بين المسلمين وبينهم مناوشات فلقوا من ذلك شدة شديدة وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر أعطاهم الدستـور وسـار إلـى القدس لسبع بقين من في القعدة ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه وأمر العسكر بنقل الحجارة وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم لعدة أيام‏.‏

  ذكر وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر

كان الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيـوب قـد سـار إلـى البلـاد المرتجعـة مـن كوكبوري التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات وهـي حـران وغيرهـا فامتـدت عيـن الملك المظفر إلى بلاد مجاوريه واستولى على السويداء وحاني واتقع مع بكتمر صاحب خلاط فكسره وحصره في خلاط وتملك على معظم البلاد ثـم رحـل عنهـا ونـازل ملازكـرد وهـي لبكتمر وضايقها وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد بن الملك المظفر عمر المذكـور فعـرض للملـك المظفـر مـرض شديـد وتزايـد بـه حتـى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان من هذه السنة أعني سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأخفى ولده الملك المنصور وفاته ورحـل عـن ملازكـرد ووصل به إلى حماة ودفنه بظاهرها وبنى إلى جانب التربة مدرسة وذلك مشهور هناك وكان الملك المظفر شجاعاً شديد البأس ركناً عظيماً من أركان البيت الأيوبي وكان عنده فضل وأدب وله شعر حسن واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر توفي فيها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين وأمه ست الشام بنت أيوب أخت السلطان فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته‏.‏

ولما مات الملـك المظفـر راسـل ابنـه الملـك المنصـور السلطـان صلـاح الديـن واشتـرط شروطـاً نسبه السلطان فيها إلى العصيان وكاد أمره يضطرب بالكلية فراسل الملك المنصور عمه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور حتى أجابه السلطان وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجـم وارتجـع السلطـان البلـاد الشرقيـة ومـا معهـا وأقطعهـا أخـاه الملـك العادل بعد أن شرط السلطان أن الملك العادل ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام خلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء ونصف خاصه بمصر وأن يكون عليه في كل سنة ستة آلاف غرارة تحمل من الصلت والبلقاء إلـى القـدس ولمـا استقـر ذلـك سـار الملـك العـادل إلـى البلـاد الشرقيـة لتقريـر أمورهـا فقررهـا وعـاد إلـى خدمـة السلطـان فـي آخـر جمـادى الآخـرة مـن السنـة القابلـة أعنـي سنـة ثمـان وثمانين وخمسمائة ولما قدم الملك العادل على السلطـان كـان الملـك المنصـور صاحـب حمـاة صحبتـه فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين نهض واعتنقه وغشيه البكاء وأكرمه وأنزله في مقدمة عسكره‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏

فـي هـذه السنـة فـي شعبـان قتـل قزل أرسلان واسمه عثمان بن الدكز وهو الذي ملك أذربيجان وهمـذان وأصفهـان والـري بعـد أخيـه محمـد البهلـوان وكـان قـد قـوي عليـه السلطان طغريل السلجوقي وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره ثم إن قـزل أرسلـان تغلـب واعتقـل السلطـان طغريل بن أرسلان بن طغريل في بعض البلاد وسار قزل أرسلان بعـد ذلـك إلـى أصفهـان وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة ودخل لينام على فراشه وتفرق عنه أصحابه فدخل عليه من قتله على فراشه ولم يعرف قاتله‏.‏

وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى السلطـان صلـاح الدين وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده وأعطى ولده هذا ملطية ثم تغلب بعض إخوته على والده وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور فخاف من ذلك فسار إلى السلطان ملتجئاً إليـه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة وقد انقطعت أطماع أخيه منه قال ابن الأثير لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع معز الدين قيصر شاه المذكور ترجل معز الدين له فترجل السلطان صلاح الدين ولما ركب السلطـان صلـاح الديـن عضـده قيصـر شـاه وركبه وكان علاء الدين بن عز الدين مسعـود صاحـب الموصـل مـع السلطـان إذ ذاك فسـوى ثيـاب السلطـان أيضـاً‏.‏

فقـال بعـض الحاضريـن فـي نفسـه‏:‏ مـا بقيـت تبالـي يـا ابـن أيـوب بأي موتة تموت يركبك ملك سلجوقي ويسوي قماشك ابن أتابك زنكي‏.‏

وفيهـا قتـل أبـو الفتـح يحيـى بـن حنـش بـن أميـرك الملقـب شهـاب الدين السهوردي الحكيم الفيلسوف بقلعة حلـب محبوسـاً أمـر بخنقـه الملـك الظاهـر غـازي بأمـر والـده السلطـان صلـاح الدين قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة على مجد الدين الجيلي شيخ الإمام فخر الدين ثم سافر السهروردي المذكور إلى حلب وكان علمه أكثر من عقله فنسب إلى انحلال العقيدة وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه واشتهر عنه وكان أشدهـم عليـه فـي ذلـك زيـن الديـن ومجـد الديـن ابنـا جهبل حكى الشيخ سيف الدين الآمدي قال‏:‏ اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي‏:‏ لا بد أن أملك الأرض‏.‏

فقلت له من أين لك هذا قال‏:‏ رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر‏.‏

فقلت‏:‏ لعل يكون اشتهار علمك وما يناسب هـذا فرأيتـه لا يرجع عما وقع في نفسه ووجدته كثير العلم قليل العقل وكان عمره لما قتل ثمانياً وثلاثين سنة وله عدة مصنفات في الحكمة منها‏:‏ التلويحات والتنقيحات والمشـارع والمطارحات وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق وكان ينتسب إلى أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن فمنه‏:‏ أبـداً تحـن إليكـم الـأرواح ووصالكم ريحانهـا والـراح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكـم وإلى لذيذ لقائكـم ترتـاح وارحمتا للعاشقين تكلفـوا ستر المحبة والهوى فضاح وإذا هـم كتمـوا يحدث عنهم عنـد الوشـاة المدمع السحاح وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر‏.‏